ماتتْ بِسبب بَصْقَة !
بسم الله الرحمن الرحيم . ما أجمل بعض القصص الفكاهية التي سمعناها من أفواه أجدادنا ، فيها من اللطافة ما فيها ، سهلة المَبْنَى ، جَزْلَةُ المعنى ، بعيدة عن التَّعقيد ، خاليةٌ من التَّجْرِيد ، أسلوبها سهل مُمْتَنِع ، تجعلك دائما مُقْتَنِعاً ، ولعلي أنقل إليكم إِحْداها وأمتعكم بمحتواها .
فقد حُكِيَ في سالف الزمان ، أن هناك عجوزاً حمقاء ، تعيش في بيت مُرَقَّعٍ ، مصنوع من شعر الماعز ، وكانت تلك العجوز مُغرمة بكثرة النوم ، لدرجة أنَّ أقاربها أطلقوا عليها مُسمى ( نَؤُومُ الضحى ) أي أنَّها تنام طوال الليل ولا تستيقظ إلا قُبَيْل الظَّهِيرة .
كانت تلك العجوز منبوذة من أقاربها ، ومن جيرانها أيضا ، لا يُدَانِيها إلا التَّعِيس ، ولا يُخالِطها من الخلق جليس ، قبيحة المنظر ، خبيثة الجوْهر دَيْدَنُها الحقد والنميمة ، وشعارها الغلُّ والضَّغِينة ، تُفَرِّق الأحباب ، وتحقر الأصحاب ، لا يُعْجبها العجب ولا حتى الصيام في رجب !
وفي ليلة من الليالي أُصِيبَتْ تلك العجوز بِنْوبة من الأرق ، ولم تتمكن من النوم ، حتى الثُّلثِ الأخير من الليل ، وقُبَيْلَ ظهور خيط الفجر ، شعرت بنعاس شديد نظراً لكونها لم تنم طوال الليل ، بعدها أَخْلَدَتْ تلك العجوز للنوم ، فسكنت منها الأطراف ، وهدأت من الغلِّ والإرجاف .
وبعد مضي بُرْهة من الزمن ، غَرَّدت العصافير مُعْلِنة بذلك تنفس الصُّبح ، ثم أشرقت شمس الحياة التي أَكْرَمَ الله بها الدنيا ، فزيَّنت بنورها مشرق الأرض ومغربها ، وبعثت بإذن ربها أسباب الحياة للخلائق ، فبنورها تحيا الدواب ، وبدفئها تزهو الرواب ( الروابي ) . وبالرغم من أن الشمس ذات فضل كبير - بعد الله على الدنيا - إلا أن هناك من يكرهها ويخشى من نورها ، فنورها يحرق عينيه ، ويجلب الكآبة لناظريه ، كالخفافيش التي لا تعيش إلا في الظلام ، وتعتقد بجهلها أنها شمعة منيرة ، وشعلة مضيئة ، وهي في حقيقة أمرها ما هي إلا فئران مُجَنَّحَةٌ ، كَرِية مُقَبَّحة .
عجوزنا سابقة الذكر ، والتي لم تنم إلا وجه الصُّبح ، أزعجها نور الشمس ، فجسمها ما زال متعباً ومن قلة النوم مرهقاً ، دعت بعدها تلك الشمطاء على الشمس بالويل والثُّبور ، وتمنت أن يكون حالها كحال أهل القبور ، فالشمس قد سَلَبَتْ راحتها ، وأقلقت منامها .
بعدها قامت تلك العجوز كما تقوم البقرة من مربضها ، ثم خرجت من بيتها المُهلهل ، وهي تنظر إلى الشمس بوجه عابس قبيح ، وخانِس قَرِيح ، ثم قالت : – مخاطبة الشمس – ارجعي من حيث أتيتِ ، لا بارك الله فيكِ ولا في نوركِ ، هيا اهبطي ، فأنا لم أنم طوال الليل .
العجوز الحمقاء تعتقد أن الشمس سترد عليها ، أو أنها ستَمْتَثِل لقولها . كررت العجوز كلامها ، ثم هددت شمس الحياة إن لم ترجع من حيث أتت فسوف تبصق عليها بصقة عظيمة لدرجة أن البصقة سوف تصل إلى الشمس وتطفئ نورها .
الشمس لم ترد على تلك العجوز الشمطاء ، وواصلة بث شعاعها الذهبي الذي زين العالم ومنح الأمل للمخلوقات . استمرت تلك العجوز تُرْغِي وتُزْبِد والشمس مستمرة في إشعاعها ، وعندما توسطت الشمس في كبد السماء ، استعدت تلك العجوز لتنفيذ تهديدها الذي هددت به الشمس ، فقد قالت لها : إن لم ترجعي فسوف أطفئك ببصقتي .
شحذت العجوز همَّتها ، فشفطت ما في جوفها من لعاب نتن ، ثم وجهت رأسها نحو الشمس ، لتبصق عليها ، وبالفعل بصقت . ارتفعت تلك البصقة في السماء قدر ارتفاع سقف بيتها ، ثم ارتطمت أي البصقة ببقة ( بعوضة ) نتنة من بق الدماء الفاسدة ، فالتصقت البقة بلعاب العجوز ، ثم ما لبثت تلك البصقة إلا وارتدت نحو وجه العجوز ولكنها محملة ببقة كريهة ، سقطت تلك البصقة في فم تلك العجوز ، فابتلعتها مع البعوضة ، وبعد مرور يوم من تلك الحادثة شعرت العجوز بألم في بطنها فتلك البصقة المحملة بالبعوضة قد سببت لها مرضاً عُضَالاً ، أَدَّى إلى وفاتها خلال أيام .
البصقة ارتدت على من بصقها ، فجعل الله كيد الباصق في نحره ، وتدبيره في تدميره ، أما الشمس فما زالت مشعة بنورها الخلاب ، لا يضرها بصق الباصقين ولا لعاب المتعفنين ولا نباح النَّابحين فلله درها من شمس .
قال تعالى ) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور )
وقال تعالى ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون الا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب اليم )
أعزائي القراء ، في هذا الزمان ، كَثُرَ أحفاد تلك العجوز الدميمة ، التي قتلتها البصقة الكريهة ، يحاولون أن يطفئوا نور الشمس بِبُصَاقِهِم العفن، ولكن كل بصقة عرفت مستقرها ومستودعها ، وما جرى لجدتهم لا محالة جارٍ لهم .